في تقرير صدر أخيرا، عن مؤسسة آل سعود للدراسات في الدار البيضاء حول قطاع الكتاب والنشر في المغرب، خلاصة جديرة بالانتباه، وتتعلق بأكثر الكتب التي تشكل عنصر جذب لطائفة واسعة من القراء وخصوصاً الشباب.
وكانت المفاجأة تصدر الكتاب الديني والأبحاث التاريخية والاجتماعية وكتب الفلسفة.
وهذه مفارقة تحتاج إلى تمحيص أكثر وتدقيق في مدى صوابيتها، إذ تجتمع متناقضات لكل منها مؤشراتها الدالة على سباق ثقافي واجتماعي معين.
فإذا كان الاهتمام بالكتاب الديني من طرف القراء الشباب المغاربة، له أكثر من مبرر بالنظر إلى تسيد الخطاب الديني للحياة اليومية وتحوله من مجرد كلام في الكتب إلى ممارسة يومية دينية واجتماعية وسياسية، فإن انصراف جمهور من القراء نحو كتب الدراسات التاريخية والاجتماعية التي تتناول ماضي وحاضر الممارسة السياسية وإدارة الدولة وتدبير الشأن العام هي أمور مستجدة، وتطرح أسئلة حول أسباب هذه التحولات.
ولماذا لا يكون الكتاب الأدبي والفني هو المتصدر لخلاصات هذه الدراسة، والتي سبقها دراسات تؤكد ارتفاع مستوى التدين عند المغاربة، عموما، خلال العشرية الأولى من القرن الحالي.
وفي التقرير، الكثير من العناصر المهمة، لعل أهمها، أن حوالي 80% من الكتب الدينية التي صدرت ما بين 2015 و2016 كانت من تأليف كتاب مغاربة، وهذا يعني على مستوى المدلول بداية نشوء نوع من التفكير الديني المحلي، يحاول أن يعالج قضايا المغاربة المستجدة دون أن يلجأ كما في السابق إلى استيراد رؤية التأليف المشرقية، التي كانت مهيمنة، ولا تزال، على هذا الحقل الحساس.
والخلاصة الأخرى الرديفة، وهي بالغة الخطورة والأهمية، تكمن في تراجع التأليف باللغة الفرنسية، التي كانت لغة التأليف الأولى لعقود طويلة لصالح اللغة العربية.
فلم يعد الكتاب الفرنسي يشكل إلا نسبة 14% من نسبة الإصدارات السنوية في المغرب، في حين اكتسح التأليف باللغة العربية وأزاح الفرنسية عن عرشها.
وهذا له مدلولان بارزان: الأول، أن المغرب شهد صراعا اجتماعيا صامتا على مدار عقود، بين النخبة المفرنسة والنخبة المعربة، انتهى بسبب عوامل كثيرة، اجتماعية وسياسية وثقافية، إلى إزاحة النخب الفرنسية أو تقهقرها أو تغييرها لجلدها، وبدعم رسمي من الدولة، بعد نهج سياسة التعريب، منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وهي السياسة التي جرت بمباركة حارة من الأحزاب والقوى المحافظة في البلاد، لأسباب ليس هنا مقام شرحها. المدلول الثاني، أن لغة البحث العلمي والجامعي في المغرب اليوم، لم تعد هي اللغة الفرنسية، وليست اللغة الانجليزية أو الإسبانية، بل اللغة العربية. هل يؤدي هذا إلى إغناء أو إضعاف البحث العلمي؟
الجواب عند صانعي السياسات التعليمية ومراكز الدراسات المعنية، وقوة وقيمة الشهادات العلمية المتحصل عليها في الجامعة المغربية في مراكز الأبحاث والمعاهد العلمية بالخارج.
ولكن لو أردنا صياغة هذه المعطيات ضمن خيط ناظم، لتوجب القول التالي: من الجيد أن يكون هناك إنتاج وتراكم في مجال التأليف باللغة العربية، سواء في مجالات العلوم والقضايا الدينية أو في الدراسات الأكاديمية، تاريخا وفلسفة وعلوم اجتماع، بصرف النظر عن قيمة وجودة ما ينتج باللغة الأم.
لكن هذا، في الآن نفسه، يضع الثقافة المغربية، التي كانت منفتحة ومتعددة، أمام مأزق حضاري، فحين كان المثقف المغربي ورجل الدين، في الغالب الأعم ثنائي اللغة، أو ثلاثيها، ها هو يضيق اليوم من سعة أفقه ليصبح متكلما بلغة واحدة، بها يفكر ويكتب ويحيا، وهذا، بلا شك، سينعكس سلبا على قوة الحضور المغربي في المحفل الخارجي، وربما نحتاج إلى من “يترجم” عنا في المستقبل، ومن يترجم لنا ما يحدث في العالم من ذبذبات. وتلك هي الطامة الكبرى.
عن موقع اليوم 24