وجه عبد الناصر الناجي، الباحث الأكاديمي، وعضو المجلس الأعلى للتربية والتكوين رسالة مفتوحة إلى وزير التربية الوطنية والتكوين المهني، رشيد بلمختار.
الرسالة هاجمت توجه رشيد بلمختار نحو “فرنسة التعليم”، كما أكدت أن تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية يتناقض جملة وتفصيلا مع الرؤية الاستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين، الذي يعتبر بلمختار أحد أعضائه.
وفيما يلي نص الرسالة
زميلي المحترم السيد وزير التربية الوطنية
كان من الممكن أن أفصح لك عما سأكتبه في هذه الرسالة في اللقاءات القليلة، التي تجمعنا في دورات المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، غير أن الأمر مستعجل، ولا يحتمل الانتظار إلى حين انعقاد الدورة المقبلة للمجلس. كما أن وقتك لا يسمح، على ما يبدو، بحضور اجتماعات لجان المجلس، وإلا انتظرت موعد انعقاد اللجنة، التي ننتمي إليها معا لأفاتحك في الموضوع. وفضلا عن هذا وذاك فالقضية ليست شخصية يمكن الأخذ والرد فيها بيننا على انفراد، بل هي أساسا قضية رأي عام تهم مستقبل الأجيال من جهة، ولها من جهة أخرى صلة وطيدة بعمل المجلس الأعلى، الذي نتشرف أنا وأنت بالعضوية فيه، وهذا هو الأهم.
زميلي المحترم السيد وزير التربية الوطنية
تعرف ولا شك أن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وفي إطار ممارسته لصلاحياته الدستورية، بلور رؤية استراتيجية للإصلاح على المدى الزمني 2015-2030، كانت خلاصة نقاش بناء ومثمر وتفاعل غني بين الأفكار ووجهات النظر المختلفة التي دافع عنها أصحابها بكل ما أوتوا من حجج موضوعية مسنودة بأطروحات علمية ودراسات مقارنة كلما كان ذلك ممكنا. وتتذكر حتما أنك قدمت للمجلس باسم الوزارة التي تشرف عليها رؤية مستقبلية لإصلاح منظومة التربية والتكوين قارعت هي أيضا الأفكار الأخرى بالحجج التي اعتبرتها قابلة للإقناع. وتم الحسم في الأخير في اتجاه تبني أفكار والتخلي عن أخرى، بناء على الآليات التي اعتمدها المجلس لتحقيق هذا الأمر، دون أن يعني ذلك انتصارا لهذا التصور على ذاك أو إقصاء لتلك الفكرة على حساب هذه. وكانت تلك حسب ظني قناعة جميع أعضاء المجلس وخاصة من تقع على عاتقهم مسؤولية تفعيل هذه الرؤية الاستراتيجية “المشتركة”، لكنك فاجأتني مرتين: الأولى عندما حافظت على “رؤيتك المستقبلية” فيما سميته التدابير ذات الأولوية، وهذه لن أتحدث عنها في هذه الرسالة، والثانية عندما “قررت” تدريس مادتي الرياضيات والعلوم الفيزيائية باللغة الفرنسية بالجذع المشترك التكنولوجي وبمسلكي العلوم والتكنولوجيات الميكانيكية والعلوم والتكنولوجيات الكهربائية، وهذا هو صلب رسالتي إليك اليوم.
زميلي المحترم السيد وزير التربية الوطنية
أنا أعرف غيرتك على منظومة التربية والتكوين ورغبتك الأكيدة في تصحيح اختلالاتها. وأعلم أيضا اقتناعك، وأنا أشاطرك هذا الاقتناع، بأن ضعف اكتساب اللغات سبب أساس في ضعف التحصيل الدراسي لدى أبنائنا وبناتنا. لكنك تعلم علم اليقين أن الرؤية الاستراتيجية اقترحت حلا لهذه المعضلة أسمته التناوب اللغوي، وهو خيار تربوي معمول به في الكثير من الدول، يروم تنويع لغات التدريس، وتحسين التحصيل الدراسي فيها عن طريق التدريس بها؛ وذلك بتعليم بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة أجنبية. وهو اقتراح لا لبس فيه ولا يحتمل قراءتين، بل يعني بوضوح تدريس مضامين بعض المواد باللغتين العربية والأجنبية بصيغة التناوب، حسب حصص محددة لكل لغة على حدة، تسمح بتدريس بعض المضامين فقط باللغة الأجنبية. وكان منتظرا منك هنا بالذات أن تقترح التدابير الكفيلة بالتفعيل الأمثل لهذا التوجه الاستراتيجي في التعليم الثانوي التأهيلي على المدى القريب، كما أوصت بذلك الرؤية الاستراتيجية، من قبيل تحديد المواد التي سيشملها التناوب اللغوي والمضامين، التي سيتم تدريسها منها بلغة أجنبية، وكيفية تدريسها بطريقة ناجعة، وكيفية التأهيل البيداغوجي للأساتذة الذين سيقومون بتدريسها، غير أنك بدل ذلك سلكت طريقا معاكسا تماما لتوجه المجلس الأعلى وقررت تدريس المواد العلمية بجميع مضامينها، وليس بعضها فقط، باللغة الفرنسية.
زميلي المحترم السيد وزير التربية الوطنية
كنت أنتظر أن يخبرك مستشاروك ومسؤولو وزارتك أن المسالك التي اخترتها لتنفيذ قرارك كانت تطبق منذ عقود شكلا من أشكال التناوب اللغوي، المنصوص عليه في الرؤية الاستراتيجية بتدريسها بعض مضامين الفيزياء مثلا باللغة الفرنسية إلى جانب تدريسها بالعربية. وكنت أتوقع أن يقترحوا عليك دراسة هذا النموذج للوقوف على مستوى تلاميذ هذه المسالك في اللغة الفرنسية مقارنة مع نظرائهم في الشعب، التي لا تطبق التناوب اللغوي، قصد استخلاص الدروس المساعدة على وضع خطة محكمة لتفعيل هذا الاختيار في باقي شعب ومسالك التعليم الثانوي التأهيلي. لكنني لم أتوقع أبدا أن تتخذ قرارا يتعارض جملة وتفصيلا مع الرؤية الاستراتيجية للمجلس، وأنت الحريص أشد الحرص على تطبيق توجهاتها بكل الدقة المطلوبة، حسب ما صرحت به مرارا وتكرارا، إلا أن يكون خطأ غير مقصود سرعان ما سيتم التراجع عنه بعد التأكد من وقوعه. وإلا لو كانت النية هي بالفعل ما ورد في المذكرة التي “بشرتنا” بقرارك لكنت يا زميلي أقدمت على تنفيذها قبل أن يصدر المجلس رؤيته، لكنك لم تفعل احتراما منك على ما أعتقد للمؤسسة الدستورية، التي ننتمي إليها، وهذا شيء يحسب لك. ولا أشك أنك لو كنت تؤمن بضرورة فرنسة تدريس جميع المواد العلمية لدافعت عن رأيك باستماتتك المعهودة داخل المجلس، لكن بما أننا جميعا تبنينا الرؤية الاستراتيجية كما هي عليه اليوم، فلم أكن لأشك للحظة أنك ستسعى إلى تغيير معالمها عند التفعيل، ولو لم تكن راضيا على بعض مضامينها، لأنك تعرف حق المعرفة أن ذلك لن يشجع حتما على الانخراط في الإصلاح الجديد.
زميلي المحترم السيد وزير التربية الوطنية
إنك تتحمل مسؤولية جسيمة على رأس قطاع مصيري بالنسبة لمستقبل البلاد ولا أخالك إلا تقدرها حق قدرها. كما إنني على يقين أنك تريد أن تسابق الزمن من أجل أن تغير واقع حال منظومتنا التربوية لتصبح في وقت وجيز قادرة على الاستجابة لانتظارات المواطنات والمواطنين. لكنك تعلم أن التسرع ليس حلا خاصة في ظل وضعية تؤطرها مرجعية جديدة للإصلاح تبذل كل الجهود من أجل أن يتقاسمها الجميع وتتملكها كل الأطراف المعنية وتنخرط في تفعيلها بكل وعي ومسؤولية. فنحن في بداية طريق طويل وشاق نحتاج فيه إلى التعاون التام بين المؤسسات مع احترام اختصاصات كل طرف، لا إلى حوادث طريق تعرقل الانطلاق السليم في مسار الإصلاح، وقد تعطي المبرر للحكومات المقبلة للانحراف عن مساره متى شاءت لنعيد من جديد الدوران في متاهة إصلاح الإصلاح، وهذا لا يحتاج إلى تذكير أيها الزميل المحترم.
عن موقع اليوم24